News

أوكرانيا: حروب الأثرياء تطيح الاقتصاد… وسيناريو لثورة محتملة

أوكرانيا

 

محمد خلف
تكشف الممارسة السياسية للرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو طيلة الفترة منذ وصوله إلى السلطة في البلاد المنقسمة على نفسها وحتى الآن أن إدارة أوباما دعمت الشخص غير المناسب لتولى قيادة البلاد، ذلك أن ما قام به من إجراءات وما اتخذه من قرارات هدفت بالدرجة الأولى إلى تدعيم قبضته على الحكم وتقويض المؤسسات التي تكافح الفساد الذي يعم هيئات الدولة ومؤسسات الحكم. بوروشينكو الذي كان لفترة قصيرة وزيراً للخارجية تميز ببراعته في السجالات السياسية وإتقانه اللغة الإنكليزية على خلاف الرئيس المقال فيكتور يانكوفيتش. كما أنه ورئيس حكومته السابق آرسين ياستنيوك اتقنا فن الاستماع إلى المسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم نائب الرئيس جو بايدن الذي كان رجل أـوباما لأوكراينا خلال الإدارة السابقة بغية الحصول على رضاهم.
بعد أن استيقظت أوكراينا من فوضى الثورة في كانون الثاني(يناير) وشباط (فبراير) عام 2014 برز الإثنان كسياسيين مواليين للغرب ومؤهلين لقيادة مسيرة البلاد نحو العضوية في الاتحاد الأوروبي، ما مكنهما من التسلح بوعود الحصول على المساعدات التقنية والقروض من صندوق النقد الدولي لتعزيز شعبيتها، ولكن الأحداث اللاحقة في البلاد بيّنت في شكل واضح أن نهجمهما وخططهما هدفت إلى تحقيق مصالحهما الشخصية برأي المراقبين.
يقول المحلل السياسي في وكالة (بلومبيرغ) ليونيد بيرشيدسكي:» سارع بوروشينكو ورئيس حكومته إلى تنفيذ ما فرضه الغرب من شروط للحصول على الأموال و المساعدات المالية وكان أحدها إنشاء وكالة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد يديرها مدع عام خاص. إلا أنه على رغم الضجة الإعلامية الصاخبة التي إثارتها الوكالة بقرارها استجواب أكثر من 400 سياسي لم يستطع المدعي العام إثبات أيّ من التهم الموجهة إليهم بالفساد وتقديم الرشى، ما دفع واشنطن وبروكسيل إلى الضغط على الحكومة لإنشاء محكمة خاصة ضد الفساد والفاسدين، وهو ما تعاطى معه بوروشينكو ببرود وقلة حماسة متعللاً بأن دولاً قليلة في العالم تمتلك مثل هذه المحكمة. وعلى حسابه في «تويتر» كتب المحلل الاقتصادي أندرس إسلوند المعروف بتفاؤله بنجاح الإصلاحات في أوكرانيا:» يبدو أن الرئيس بوروشينكو تخلى عن مكافحة الفساد وعن كل طموحاته بتحقيق نمو اقتصادي وعضوية الاتحاد الأوروبي وقروض صندوق النقد الدولي».

صراعات الأوليغارشية على النفوذ
تتهدد أوكرانيا أزمة جديدة ناجمة عن اندلاع الحرب بين جماعات الأوليغارشية المتصارعة على السلطة والمال والنفوذ، والتي بدأت مع نشوب الخلاف بين السلطات في كييف ومحافظ إقليم دنيبروبتروفسك إيغور كولومويسكي الذي يعد أشهر يهودي في أوكرانيا ويحتل المرتبة الثالثة في لائحة الأثرياء في البلاد بعد رينات أخمدوف وديمترو فيرتاس وتصل ثروته إلى 3.6 بليون دولار وفق مجلة (فوربس). ووفق صحيفة «نوفيا إزفستيا» الروسية فإن كولومويسكي عارض تعيين مدير جديد لشركة النفط الوطنية ( أوكرا ترانس نفط)، كما رفض تمرير البرلمان قانوناً يحرمه من السيطرة الكاملة على شركة (أوكرا نفط) الوطنية. مشكلة كولومويسكي ليست فقط مع الحكومة، بل مع مجموعة من الأوليغارشيين الذين لدى كل واحد منهم أطماع ومصالح مختلفة وفق ما ذكرته صحيفة «موسكوفسكي وكومسوموليتس».
يستحوذ عشرون من أثرى أثرياء أوكرانيا على 20 في المئة من أصول وممتلكات الدولة وفق «نوفيا إزفستيا». وتهدد الحرب الدائرة بينهم الأمن القومي للبلاد. وكانت مراكز إدارة عدد من شركات النفط في البلاد احتلتها ميليشيات مسلحة تابعة إما للمحافظين أو للأوليغارشيين. وعلق بوروشينكو بأن» الأمن سيخضع لسيطرة هيئات الشرطة و الأمن وفق تراتبية وهيكلية واضحة، وليس مسموحاً من الآن فصاعداً وجود محافظ له ميليشيات مسلحة خاصة تحت آمرته». أما وزير الداخلية أرسين أفاكوف فوعد على حسابه في «فايسبوك» بمنع وجود حراس مسلحين تابعين شخصياً لسياسيين أو رجال أعمال يجولون في الشوارع وهم مدججون بالأسلحة.
يسعى كييف وفق ما أوردت صحيفة «فيدوموستي» الروسية المستقلة إلى إعادة سيطرة الدولة على الشركات النفطية الحكومية التي يستخدمها كولومسكي لتحقيق منافعه الشخصية. وقال المحلل الأوكراني فولودمير فيسينكو:» إذا قامت الحكومة بفصل كولومسكي من منصبه فهذا سيعني فتح جبهة ثانية وهو لا يصب في مصلحة الدولة». وأضاف:» بوروشينكو وكذلك كولومسكي معاً يدركان هذه الحقيقة لأن ذلك يعني تقديمها هدية مجانية لبوتين». إلا أن المعلق الروسي ألكسي جيسناكوف يخالفه الرأي قائلاً في حديث إلى إذاعة «بي بي سي» اللندنية إن «السلطة في كييف مرتبكة إلى حد كبير لدرجة أنها لا تستثني احتمال حدوث أي سيناريو لأن أي احتمال بإقالة كولومسكي من شأنه أن يجعل من مواقف النخبة السياسية في البلاد غامضة في ما يخص تسوية النزاع مع الانفصاليين في دونباس». وأضاف أن انفصاليي دونباس سينتابهم الفرح فيما لو أقيل كولومسكي لأنه هو بالذات من نظّم وأدار الحصار على الجمهورية المعلنة من طرف واحد في الأجزاء الشرقية من البلاد وبفضله توقف سيل الشحنات الغذائية للمتمردين، كما أن هذا البليونير يموّل كتيبة من المقاتلين المتطوّعين في مواجهة الانفصاليين في دونباس، وفق صحيفة «نيزافيسمايا غازيتا» الروسية.

كشوف أموال وممتلكات السياسيين
كان صندوق النقد الدولي طالب بقيام ما يقرب من 50 ألفاً من السياسيين والنواب ورجال الأعمال بتقديم كشوفات إلكترونية عن ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة وثرواتهم المالية كشرط لتقديمه قرضاً بمبلغ 17.5 بليون دولار وذلك في إطار باقة الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد، ولكن السياسيين والمسؤولين ما فتئوا يضعون العراقيل أمام المنظومة الإلكترونية التي تنظم تقديم هذه الكشوفات متحججين بوجود نواقص فنية تعيق إملاء البيانات في الاستمارات المطلوبة. وقال ممثل البنك الأوروبي للتنمية والتعمير في أوكرانيا آرتيم شيفاليوف: «لا يبدو أن أوكرانيا مستعدة للشروع في تطبيق الإصلاحات الصعبة وفي مقدمها منظومة تقديم الكشوفات عن المداخيل الشخصية». ويشترط الاتحاد الأوروبي هو الآخر لرفع نظام تأشيرات الدخول إلى دوله أمام الأوكرانيين تنفيذ حزمة الإصلاحات الهيكيلية ومحاربة الفساد وإصلاح القضاء، وهدّد بأن فشلها سيترك الانطباع بأن الحكومة المدعومة من الغرب لا تمتلك الإرادة المطلوبة لمكافحة الفساد والقيام بخصخصة الشركات المملوكة من الدولة أو تطهير أجهزة الجمارك والضرائب والقضاء من الفاسدين. ويشير تقرير نشرته وكالة «رويترز» إلى «أن مسؤولين كباراً وسياسيين ونواباً ورجال أعمال راكموا ثروات طائلة خلال السنوات القليلة المنصرمة»، وكشفت عن «مداهمات قامت بها القوات الخاصة لمسكن وزير النفط السابق إدوارد ستافيتسكي قبل سنتين أسفرت عن العثور على 42 كيلوغراماً من الذهب ونحو5 ملايين دولار نقداً، أما في العام الماضي فقد عثرت الشرطة على كمية كبيرة من المجوهرات الثمينة في شقّتي إثنين من كبار القضاة في البلاد. ومازالت أوكراينا تعتبر من بين الدول الأكثر فساداً في العالم، واحتلت في تصنيف منظمة الشفافية العالمية المرتبة 131 من بين 176 دولة عام 2016.

دراما شاكاسفيلي ومهزلة الحكم
تحولت كييف بداية كانون الأول(ديسمبر) الماضي ساحة دراما تحمل ملامح مهزلة مع قيام الشرطة بأوامر مباشرة من بوروشينكو باعتقال حليفه رئيس جيورجيا السابق ميخائيل شاكاسفيلي الذي أصبح في شكل مفاجئ منشقاً سياسياً أوكرانياً بعد أن كان دعاه الرئيس الأوكراني المنتخب في عام 2015 إلى المساعدة في تحويل الجمهورية السوفياتية السابقة إلى دولة ديموقراطية على النموذج الغربي وتأهليها لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي بعد سنوات. الآن يستخدم بوروشينكو كل مفاصل السلطة التي بيديه لزج خصمه الجديد في السجن أو على الأقل ترحيله إلى بلاده. شاكاسفيلي الذي قاد الثورة ضد النظام السوفياتي في بلده يطمح الآن إلى فعل الشيء نفسه في أوكرانيا ولكنه فشل في مساعيه، لا بل حتى خسر جنسيته الأوكرانية حينما كان في الخارج. ويتهم شاكاسفيلي الذي كان حاكماً لإقليم أوديسا حكومة بوروشينكو بتعميم الفساد بدلاً من تنفيذ وعوده بقصم ظهره ووضع حد لهذا الوباء الذي يقوّض أسس الدولة والمجتمع الأوكراني.
يؤشّر اعتقال شاكاسفيلي إلى تراجع نوعي في طموحات أوكرانيا لاكتساب القيم الأوروبية. ويقول المحلّل في الشؤون الأوروبية إيليان فاسيليف إن محاولات تصوير شاكاسفيلي عميلاً لروسيا غير قابلة للتصديق، لأن سيرته كحاكم لإقليم أوديسا وخلافه الصريح مع بوروشينكو حول امتيازات المسؤولين والسياسيين والفساد في أوساط الأوليغارشية تدحض بقوة هذه الاتهامات. لم يعد خافياً أن أوكرانيا استنسخت النموذج الأوليغارشي الروسي في الحكم متعارضة في ذلك مع النموذج الليبيرالي الأوروبي. ويريد بوروشينكو استثمار موقع أوكرانيا في الصراع الجيوبوليتكي بين روسيا والغرب لمصلحته، إلا أنه تعدى الحدود الفاصلة في العلاقة مع الغرب بقيامه باعتقال شاكاسفيلي ومقاومة حزبه الشديدة لجهاز مكافة الفساد وجرائم النخبة السياسية والجماعات الأوليغارشية. وترى صحيفة «واشنطن بوست» أن بوروشينكو يعمل من أجل تكرار تجارب دول متعددة في أوروبا الشرقية نجحت فيها فلول النخب الشيوعية السابقة بتهدئة شكوك الغرب وقبوله تحوّلهم رجال أعمال كباراً يمتلكون بلايين الدولارات ويسيطرون من وراء الكواليس على السلطة ويتحكمون بقراراتها على طريقة المافيا.
باعتقاله شاكاسفيلي قام بوروشينكو بتقويض ما تبقى من الثقة به في الأوساط السياسية الأميركية والأوروبية الغربية والأوساط الاجتماعية في بلده، فضلاً عن أن إطلاق محكمة كييف سراح شاكاسفيلي أوقع بوروشينكو في دائرتين من المشاكل الملتوية. ومع أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال انتصاراً للسياسي الجورجي بخاصة أن حظوظه في إشعال ثورة جديدة تحدّدها دينامية وقوة الشارع المتغيرة التي تستلزم طاقة شعبية متأجّجة تقود إلى ميدان ثان للثورة.
يؤكد فاسيليف أن تقسيم أوكرانيا يظل احتمالاً وسيناريو قائماً لأن الاختلاف بين الغرب والشرق مازال كبيراً وشاسعاً في مساحته ما يبعد أي تسوية في حال الصراع المحتدم على خلفية المواجهة الحالية بين القوتين الروسية والأميركية– الغربية. التأريخ يعيد نفسه في أوكرانيا وثورة الميدان التالية تبدو أكثر احتمالاً ما دام بوروشينكو مستمراً في إحكام قبضته على السلطة متناسيًا مصير سلفه يانكوفيتش الذي تناسى أن لا طريق ثالثاً بين روسيا بوتين والغرب.

الحياة

Leave a Comment