News

القرم بعد سنة على «زلزال» الضم… رهان ضبابي على غد أفضل

القرم

القرم

موسكو – رائد جبر

قبل عام، لم تكن فالنتينا ايفانوفا الموظّفة في أحد المصارف الروسية الكبرى تتخّيل أن الأقدار ستقودها يوماً، إلى شبه جزيرة القرم جنوب اوكرانيا بعدما عاشت وعملت طوال السنوات الـ 20 الماضية، في مدينتها أباكان وسط سيبيريا. هي الآن مديرة فرع المصرف في شبه الجزيرة، نالت ترفيعاً لأنها وافقت على الانتقال إلى القرم، حيث افتتح المصرف فرعاً له.
لكن حال فالنتينا لا تعكس «ظاهرة» تشبه تلك التي عاشها الاتحاد السوفياتي في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، عندما كان عديدون يتوجهون إلى «الأراضي البكر» طمعاً بمكتسبات وحوافز كثيرة، لأن شبه الجزيرة التي احتفلت روسيا أخيراً، بالذكرى الأولى لـ «عودتها إلى الوطن» لم تتحوّل بعد مرور عام على الحدث الأبرز في تاريخها المعاصر إلى مركز جذب لأصحاب الطموح، والمعوقات لا تزال كثيرة.
استبعدت فالنتينا أخيراً، فكرة راودتها عندما تسلّمت وظيفتها، بأن تشتري منزلاً في سيفاستوبول وتحضّر نفسها لإقامة دائمة في شبه الجزيرة، «ليس لدي ما أفعله هنا، وعلي أن أعود إلى بيتي في سيبيريا بعد أن أنهي فترة عملي»، هكذا قالت السيدة لـ «الحياة».
يبدو الأمر مختلفاً بعض الشيء بالنسبة إلى الزوجين المتقاعدين سيرغي وفيرونيكا، فهما أصلاً من القرم، لكنهما وجدا نفسيهما في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد ربع قرن كانت فرحتهما لا توصف بقرار ضمّ القرم، على رغم أنهما يمتلكان بيتاً في موسكو، ومنزلاً ريفياً، يقضيان فيه فترة الصيف. لكن استعادة القرم ذكّرتهما ببيت ورثاه في شبه الجزيرة وبأقارب هناك انقطعت أوصال العلاقة معهم منذ فترة طويلة. فرحة الزوجين لم تنعكس تطبيقاً، فالرغبة الكبيرة في تمضية فصل الشتاء في بيتهما «القديم – الجديد» في القرم لم تتحقق، نظراً لصعوبة الوصول إلى شبه الجزيرة المعزولة عن روسيا والمحاطة بأراضٍ أوكرانية، ناهيك عن عدم استقرار الأوضاع في المنطقة حتى الآن.
ويقول سيرغي أنه يخوض «صراعات هاتفية» مع أقاربه في القرم، الذين عادت معهم جسور التواصل لكنهم خيّبوا أمله لأنهم لا يزالون مصرّين على الولاء لكييف، ويعتبرون الوجود الروسي في شبه الجزيرة عدواناً.
لكن هذا الرأي لا يمثل غالبية الروس القاطنين في شبه الجزيرة، الذين بلغت نسبتهم وفق إحصاء أجري العام الماضي أي بعد قرار الضم، نحو 65 في المئة من مجموع السكان البالغ حوالى 3 ملايين نسمة، في مقابل 16 في المئة من الأوكرانيين و15 في المئة من التتار، الذين يفضّلون أن يطلقوا على أنفسهم لقب «السكان الأصليين للقرم»، بينما توزّعت النسبة الباقية بين أقليات متنوعة.
وداخل شبه الجزيرة، يبدو المشهد بعد مرور عام كامل على ضمّ القرم محمّلاً بخليط من الترقّب والطموح والقليل من خيبة الأمل.
لا يمكن تجاهل أن التحسّن الجزئي للأحوال المعيشية لغالبية سكان القرم ساهمت في تعاظم الآمال بأن الآتي أفضل على رغم المخاوف من مرحلة عدم الاستقرار الحالية، إذ دفع قرار زيادة أجور موظفي المؤسسات التابعة للدولة إلى شعور قطاعات كثيرة بأن تأييدها لقرار ضمّ القرم إلى روسيا جلب لها منافع. لكن هذا التطور تزامن مع خيبة أمل يزداد انتشارها في أوساط فئات كثيرة، وبين أسبابها أن التوقعات بنقلة نوعية في المستوى المعيشي لم تتحقق. ولم تشهد شبه الجزيرة ضخ استثمارات كبرى وعدت بها موسكو، كان يمكن لها أن تنقل سكان المنطقة الذين يعتمدون بالدرجة الأولى على عائدات السياحة، إلى مستوى معيشي أفضل.
وبفعل المقاطعة الغربية وعدم إنجاز مشروع ربط القرم بطريق برية بروسيا مع استمرار إغلاق الحدود من جانب أوكرانيا، لا يزال الوصول إلى المنطقة شديد الصعوبة.
وانعكست الأحوال الاقتصادية والمعيشية على الجانب الاجتماعي، فالعائلات التي انقسمت ووجدت نفسها فجأة، قبل عام على ضفتي الصراع بين روسيا وأوكرانيا، لم تجد ظروفاً مواتية لالتقاط أنفاسها والتفكير بطريقة لإعادة استئناف حياة طبيعية بعد الزلزال السياسي الذي غيّر الكثير من أسلوب حياتها المعتادة.
والروس الذين استيقظوا قبل عام ليجدوا أنفسهم مجدداً في «وطنهم الأم»، راهنوا كثيراً على دعم آتٍ من موسكو، لكن بعضهم وجد أن الانتظار سيطول. وباتت فئات من الشباب تفكّر في الانتقال إلى موسكو أو مدن روسية اخرى بحثاً عن لقمة العيش وحياة أفضل.
أما الأوكرانيون الذي أضحوا يعيشون تحت «احتلال» فباتوا مخيّرين بين الرحيل عن مدنهم وقراهم أو التمسّك بها والخضوع لإجراءات السلطة الجديدة، علماً أن غالبية أبناء القوميتين الأوكرانية والتتارية في القرم تعيش تقليدياً في الأرياف في مقابل إنتشار الروس في المدن.
وسعت سلطات الإقليم إلى مواجهة الآثار الاجتماعية لقرار الضم، وإقناع الغالبية الروسية بأن التطوّر التاريخي سيكون له تأثيرات إيجابية في أوضاعهم عبر إطلاق حزمة مشاريع أجتماعية وأقتصادية تبعث الأمل بغد أفضل، على رغم أنها لا تزال في أطوارها الأولى. وهكذا ظهر برنامج «العائلة الشابة» الذي يقدّم مساعدات مباشرة للشبان والشابات تمكّنهم من الحصول على شقق سكنية عبر قروض مصرفية ميسّرة. ولم يثبت المشروع جدواه في مراحله الأولى بعد، خصوصاً بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها القطاع المصرفي الروسي أصلاً، ما يحدّ من قدراته على ضخ أموال في الإقليم. لكن المسؤولين عن البرنامج يعتقدون أن البداية موفقّة، وأن النتائج ستظهر لاحقاً.
وتجهد مؤسسات الدولة في توجيه دعاية قوية لتدعيم أواصر العائلات التي انقسمت على طرفي الصراع، من خلال التأكيد على وحدة المصير وأن لا تأثيرات سلبية في المجتمع بسبب التقلّبات السياسية. وهذا ما دلّ اليه إعلان يوم 21 نيسان (أبريل) يوماً للوحدة الوطنية وردّ الاعتبار إلى القوميات المختلفة وفئات المجتمع.
ولا يتفق جزء من السكان مع هذا المدخل، فالتتار الذين نكّل بقياداتهم ومنعت شخصيات بارزة منهم من دخول القرم، وحلّت مؤسساتهم القومية والاجتماعية، يعتبرون كما تقول ألبينا مرادوفا الناشطة في المجلس التتاري، أن «التدابير المتخذة عملية منهجية تهدف إلى إخضاعنا للواقع الجديد على رغم أنها تقطع أواصر القربى والتواصل مع عائلاتنا وأقاربنا في أوكرانيا».
هكذا يبدو أن الوضع الاجتماعي لم يتغير كثيراً بعد التطورات الحاسمة التي شهدها القرم قبل عام، عندما استيقظ كثر ليجدوا أنفسهم وعائلاتهم مقسمين بين بلدين. وعلى عكس توقعات بأن المشكلة قد تجد حلولاً، فقد تكرّس الانقسام أكثر خلال عام، على خلفية مواجهة سياسية وعسكرية واقتصادية ودعائية ما فتئت ترمي بأثقالها على الواقع الاجتماعي في منطقة يُعتبر جزء من أهلها أنها تدفع تكاليف حرب وصراع بين الدول.

الحياة

Leave a Comment